الجمعة 22 رمضان 1441هـ

الموافق 15 مايو 2020م

الحمد لله الذي قدَّر الأمور وأمضَاها، وعلِمَ أحوالَ الخلائِق قبل خلقهم وقضاها ، وجازى كلَّ نفسٍ بعد ذلك على سُخطِها أو رِضَاها ، كلُّ شيءٍ خلَقه سبحانه بقَدْرٍ وقدَر، ولا يقع شيءٌ في كونه إلا بعِلمٍ منه ونظَر، علِمَ الأجلَ وقدَّر العمَل ، وجعَل الأمور دُوَل ، وكلُّ ذلك منه في الأزَل ، سبحانه كم أحاط علمُه، وكم وسِعَ حلمُه، وكم مضى حكمُه ؛ ونشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريكَ له ، له لطائفُ الحكمة وخفِيَّات القَدَر، ونشهَد أنّ سيدنا ونبينا محمّداً عبدُ الله ورسولُه، وخِيرتُه من كلِّ البشر، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلَى آل بيتِه الطيبين الطاهرين وصحابته الغُرَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين.

أما بعد فياعباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية والغيب والشهادة، ثم اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار، كما قال الله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)

والمراد بالاختيار هنا هو الاصطفاء والاجتباء، فالله جلّ وعلا لكمال حكمته وقدرته، ولتمام علمه وإحاطته، يختار من خلقه ما يشاء، ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصهم سبحانه وتعالى بمزيد فضله، وجزيل عنايته ووافر إنعامه وإكرامه، وهذا بلا ريب من أعظم آيات ربوبيته وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله، وهو من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه جلّ وعلا يخلق ما يشاء ويختار، وأن أزمّة الأمور بيده، فلله الأمر من قبل ومن بعد يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد (فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبّ السّمَاوَتِ وَرَبّ الأرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ)… أيها المسلمون والمسلمات: وإن مما خصَّ الله عزّ وجل من الأوقات بمزيد تفضيله، ووافر تكريمه، شهر رمضان المبارك، حيث فضله سبحانه وتعالى على

سائر الشهور، والعشر الأواخر من لياليه، حيث فضلها على سائر الليالي، وليلة القدر حيث جعلها لمزيد فضلها عنده وعظيم مكانتها لديه، خيراً من ألف شهر، وفخم أمرها وأعلى شأنها، ورفع مكانتها عندما أنزل فيها وحيه المبين وكلامه الكريم، وتنزيله الحكيم هدى للمتقين وفرقاناً للمؤمنين، وضياءً ونوراً ورحمة، قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقال تبارك وتعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ فلله ما أعظمها من ليلة، وما أجلها وما أكرمها وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، وألف شهر عباد الله تزيد على ثلاثة وثمانين عاماً، فهي عمر طويل لو قضاه المسلم كله في طاعة الله عزّ وجل، فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه، وهذا فضل عظيم وإنعام كريم، قال أهل العلم: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي ليست في تلك الشهور ليلة القدر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) فلله الحمد على فضله ورحمته، ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

عباد الله: إن الإيمان بالقدر أحدُ أركان الإيمان  ولن يتمّ الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره ، ويُوقن أن الله خالق كل شيء ومدبرُه،  وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقِه، فما كتب الله على الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وإن من الإيمان بالقدر: الإيمان بما يكون من تقدير الله في هذه الليلة الشريفة، ليلة القدر..

فأهل السُنة والجماعة يُقسّمون القدر إلى أربع تقديرات:الأول: التقدير العام الشامل، وهو تقدير الله لجميع الأشياء..فإِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلْقَهُ اللَّهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ قَالَ : اكْتُبْ قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ قَالَ: اكْتُبْ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ عَمَلٍ أَوْ أَثَرٍ ، أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجْلٍ ، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ).. التقدير الثاني: التقدير العُمُري ، وهو ما يجري على العبد في حياته من حين كونه جنيناً في بطن أمه ثم يرسلُ اللهُ إليه المَلَك ، فينفخ فيه الروح ويؤمر بكَتْبِ رزقِه وأجله وعمله ، وشقيٍ أو سعيد .

التقدير الثالث: التقدير السنوي وذلك في ليلة القدر، قال تعالى: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)

أي يكتَبُ ويفصَل في ليلة القدر كلُ ما سيحدث ويجري عليك في هذه السنة من عِزٍ وذل، وغنى وفقر، ومن صحةٍ ومرض، وابتلاء ومعافاة، وحياة وموت وغير ذلك .

التقدير الرابع: التقدير اليومي، وهو ما سيحدث ويجري عليك في يومك ، ويدل عليه قوله تعالى: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْن )، ورد في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (مِن شأنه  سبحانه أن يغفرَ ذنباً  ويُفرّجَ كرباً ، ويرفعَ قوماً ويضعَ آخرين) فأصبحت تقادير القدر أربعة: تقدير عام وعُمُري وسنوي ويومي.

والناس مع القدر على أحوال: فإما أن يُقدّر الله عليهم: النِعم – فعليهم عبودية الشكر، وإما أن يُقدّر الله عليهم: المصائب والمِحن، فعليهم عبودية الصبر، وإما أن يُقدّر الله عليهم الذنب الذي كان سببه مِن قِبَل أنفسهم، فعليهم عبودية التوبة والاستغفار .

وهؤلاء العبوديات الثلاث – الشكر والصبر والاستغفارـ هي أعظم مقامات التوحيد ، وأظهر علامات العبد السعيد .

أيها الأخوة والأخوات في الله: وفي ليلة القدر الكريمة المباركة يكثر تنزل الملائكة لكثرة بركتها وعظم خيرها، فالملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والخير والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن وفي حلق الذكر، وهي سلام حتى مطلع الفجر، يعني أنها خير كلّها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة الكريمة المباركة  (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي يقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن الله العزيز الحكيم والمراد بالتقدير أي التقدير السنوي كما ذكرنا، وأما التقدير العام في اللوح المحفوظ، فهو متقدم على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحت بذلك الأحاديث. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ليلة القدر أنه قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)

أيها المؤمنون: وليلة القدر هي قطعاً في شهر رمضان المبارك لقول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) وهي أرجى ما تكون فيه في العشر الأواخر منه، لقوله صلى الله عليه وسلم:( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان)، وطلبها عباد الله في أوتار الشهر آكد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث يبقين أو سبع يبقين أو تسع يبقين) وأرجى ليلة من تلك الليالي هي ليلة سبع وعشرين، لقول كثير من الصحابة إنها ليلة سبع وعشرين، منهم ابن عباس وأبي بن كعب وغيرهما…عباد الله: والحكمة من إخفائها وعدم تعيينها في النصوص أن يجتهد المسلمون في جميع العشر بطاعة الله جلّ وعلا، بالتهجد وقراءة القرآن والإحسان، وليتبين بذلك النشيط والمجد في طلب الخيرات من الخامل الكسلان، ولأن

الناس لو علموا عينها لاقتصر أكثرهم على قيامها دون سواها، ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان… عباد الله: إن الواجب علينا أن نحرص تمام الحرص على طلب هذه الليلة المباركة، لنفوز بثوابها ولنغنم من خيرها ولنحصل من أجورها، فإن المحروم عباد الله من حرم الثواب، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملاً بذنوبه، بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته،فطوبى لمن نال فيها سبق الفائزين، وسلك فيها بالقيام والعمل الصالح سبيل الصالحين، وويل لمن طرد في هذه الليلة عن الأبواب وأغلق فيها دونه الحجاب، وانصرفت عنه وفاتته هذه الليلة وهو مشغول بالمعاصي والآثام، مخدوع بالآمال والأحلام، مضيع لخير الليالي وأفضل الأيام، فيا عظم حسرته ويا شدة ندامته.

عباد الله: من لم يربح في هذه الليلة الكريمة ففي أي وقت يربح ومن لم ينب إلى الله في هذا الوقت الشريف فمتى ينيب ومن لم يزل متقاعداً متكاسلاً فيها عن الخيرات ففي أي وقت يعمل .

أيها المسلمون: اجتهدوا رحمكم الله في طلب تلك الليلة الشريفة المباركة، وتحروا خيرها وبركتها بالمحافظة على الصلوات المفروضة، وكثرة القيام وأداء الزكاة، وبذل الصدقات وحفظ الصيام، وكثرة الطاعات واجتناب المعاصي والسيئات، والندم والتوبة من الذنوب والخطيئات، والإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن، ويستحب للمسلم أن يكثر فيها من الدعاء لأن الدعاء فيها مستجاب، وليتخير من الدّعاء أجمعه، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:(قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إنْ علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ  القدْر؛  ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللَّهُمَّ إنَّك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ، فاعفُ عنِّي) فإن هذا الدعاء عظيم المعنى عميق الدلالة، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة، فهي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها أعمال العباد لسنة كاملة حتى ليلة القدر الأخرى، فمن أعطي في تلك الليلة العافية، وعفا عنه ربه فقد أفلح غاية الفلاح، ومن أعطي العافية في الدنيا وأعطيها في الآخرة فقد أفلح، والعافية لا يعدلها شيء، فعن العباسُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئاً أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ! قَالَ: (سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ)، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ! فَقَالَ لِي: (يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) فأكثروا رحمكم الله من سؤال الله العفو والعافية ولاسيما في هذه الليالي الشريفة الفاضلة، واعلموا أن الله تبارك وتعالى عفو غفور (وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السيِّئَاتِ وَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فلم يزل سبحانه وتعالى ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه.

عُجُّوا -رحمكم الله- في عشركم هذه بالدعاء، فقد قال ربكم عز شأنه في ثنايا آيات الصيام،    (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)

اللهم اشملنا بعفوك وأدخلنا في رحمتك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو العافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، والاجتهاد في طاعته والسعي في التقرب إليه بما يحب من صالح الأعمال، ولاسيما ونحن نعيش هذه الأيام الفاضلة والليالي الكريمة نعيش أوقاتاً شريفة، نعيش العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.

عباد الله: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر بالاجتهاد في العمل أكثر من غيرها، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، وفي الصحيحين عنها قالت: (كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دَخَل العَشْرُ أحْيَا اللَّيلَ،

وأيْقظَ أهلَه، وجَدَّ، وشَدَّ المئزَرَ) أي تفرغ للعبادة، واعتزل النساء في تلك الليالي.

عباد الله: وهذا شامل بالاجتهاد فيها بكل طاعة وكل عبادة تقرب إلى الله جلّ وعلا، بقراءة القرآن الكريم والإكثار من ذكر الله تعالى، والصلاة والسلام على رسول الله، والتسبيح والتهليل والتكبير، والصلاة والاعتكاف والصدقة وبذل الخير وصلة الأرحام، والإحسان إلى عباد الله وغير ذلك من الأعمال الصالحات والطاعات المقربة إلى الله جلّ وعلا، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يتفرغ في هذه العشر لتلك الأعمال، فينبغي علينا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك… وقد كان عليه الصلاة والسلام في العشرين الأولى قبل العشر الأخيرة، يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر، هجر فراشه، وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما ليلاً قائلاً لهما: (ألا تقومان فتصليان؟)

ويتجه إلى حجرات نسائه آمراً وقائلاً: (أيقظوا صواحب الحجر، فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه، ولقد كان السلف الصالح من أسرع الناس امتثالاً واتباعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، ففي الموطأ للإمام مالك رحمه الله: أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أن يتهجّد العبد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك). وكانت بعض نساء السلف الصالح تقول لزوجها بالليل: (قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت أمامنا ونحن قد بقينا). لهذا عباد الله ينبغي العناية بإيقاظ الأهل والأولاد، ومن يطيق القيام منهم، وحثهم وتشجيعهم ليشاركوا المسلمين في إظهار هذه الشعيرة، ويشتركوا معهم في الأجر، ويتربوا على طاعة الله وعبادة الله .

أيها المجتهدون المتعبدون: يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة، وأحوال شريفة: العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون؟ فاجتهدوا بالدعاء، وتضرعوا رحمكم الله، وسلوا الله ولا تعجزوا، ولا تستبطئوا الإجابة.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة،. اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم أكرمنا في هذه الليالي المباركة، والطف بنا، وأجرنا من النار. اللهم تقبّل صيامنا، وقيامنا، وصلاتنا، ودعاءنا، وسائر أعمالنا، وبلّغنا برحمتك ليلة القدر،وارزقنا فضلها وقيامها يا أرحم الراحمين.

اللّهم اجعلنا في هذه الليالي من الذين نظرت إليهم وغفرت لهم ورضيت عنهم، اللهم إنا نسألك حسن الصيام، وحسن الختام، ولا تجعلنا من الخاسرين في رمضان، واجعلنا ممن تدركهم الرحمة والمغفرة والعتق من النار. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا،

اللهم ارحمنا وارفع عنا وعن المسلمين وعن العالم أجمعين، كُلَّ ضرٍّ وبلاء ووباء، واكشف عنَّا الشِّدَّةَ واللَّأْواءِ، واحفظنا أجمعين بما تحفظ به عبادك الصالحين.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وما فيه الخير للبلاد والعباد، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم وفِّق العاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني في القطاع الصحي والعسكري والأمني والإعلامي والإداري والتطوعي، اللهم أَعِنْهم وانفع بهم، وبارك في جهودهم، وسدِّد رأيَهم وألهمهم الصوابَ والرشدَ، وأحفظهم من كل سوء ومكروه برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين… اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً وارفع البلاء والوباء عنهم.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين… اللهم إن لنا أحباباً قد فقدناهم، وفي التراب وسدناهم، اللهم فأجعل النور في قبورهم يغشاهم، واكتب ياربنا الجنة سكناهم، وأكتب لنا في دار النعيم لقياهم إنك مولانا ومولاهم.

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

   خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين